fbpx
عشرة أيام بصحبة “عمران”الفدائي والإنسان (الحلقة الخامسة والأخيرة)

 

د عيدروس نصر ناصر.

 

وهكذا فالكتاب ليس نكئا للجراح ولا استحضار للمآسي والآلام (كما كان يخشى صاحب الذكريات المناضل الصلاحي) بقدر ما يوثق للحظات مشرقة من تاريخ نضال الشعب الجنوبي ورصدا بانوراميا لجملة من التفاصيل بسلبها وإيجابها ، والتي تمثل بالنسبة لمن لا يعرف تاريخ الثورة المسلحة في جنوب اليمن لمواجهة المستعمر الأجنبي كنزا معرفيا يستحق التسابق على اقتنائه وتتبع تفاصيله والاحتفاء بمحتوياته.

      *       *       *

تكمن القيمة التاريخية لمذكرات عمران “المناضل صالح فاضل الصلاحي” في مجموعة من التميزات التي تجعل من الكتاب مرجعا لا يمكن لمؤرخ أو مثقف أو أكاديمي أو رجل سياسة أن يستغني عنه وأهم ذلك:

  1.  أن الكتاب يمثل رصدا دقيقا لمرحلة تاريخية هامة من تاريخ شعبنا وهي تلك الممتدة منذ مطلع الأربعينات حتى نهاية الألفية الثانية بما مثلته من تحولات وما عبرت عنه من تلطعات وما حملته من آمال وآلام وما حققته من إنجازات وما تزامنت معه من انتكاسات وكبوات وما آلت إليه من نتائج وهو بهذا يمتلك من القيمة التوثيقية والمعلوماتية ما بجعل اقتنائه ضرورة لا غنى عنها لمن يريد استكشاف هذه الحقبة المشرقة من تاريخنا المعاصر.

  2. إن الكتاب من تأليف رجل لم يكن مجرد راصد أجنبي أو متابع صحفي أو محلل سياسي أو حتى شاهد عيان وجد نفسه بالصدفة في قلب الأحداث أو كاتب سمع عن هذه الوقائع فراح يسجلها ويحفظها من الاندثار، بل إنها، وهذا ما يضاعف من قيمتها العلمية والتاريخية والأكاديمة، أحداث دونت بقلم مؤلف عاشها وكان جزء منها وساهم في صنعها وتزامل مع أبطالها وكان أحدهم وشاركهم السراء والضراء من مجرياتها وتفاعلاتها وصناعة نتائجها المشرقة.

  3. يمثل البعد الاستاتيستيكي لهذا العمل أهمية كبيرة إذا إن صاحبه يبحر بنا في رحلة رصد وتسجيل بانورامي دقيق لتفاصيل ووقائع قلما تجدها وأحداث قلما تسمع عنها وشخوص قلما كتب عنهم أو سجلوا مذكراتهم أو تحدثوا أو تحدث أحد غيرهم عن أدوارهم وبطولاتهم وهو بذلك يشكل إنصافا للكثير من المجهولين الذين تعرض لهم ولأدوارهم حتى بعد ما اختلف معهم لأسباب لم يكن هو من اختارها.

  4. ومن هذا المنطلق يمكنني هنا تسجيل استنتاج مهم توصلت إليه بعد استكمال قراءتي للكتاب وهو إن الكتاب ليس فقط سيرة ذاتية للمناضل صالح فاضل الصلاحي، وحده على أهمية الأدوار التي اطلع بها (الفدائي عمران) في مسيرة الثورة الجنوبية منذ مراحلها الجنينية حتى العام 1990م لكنه عبارة عن مجموعة من السير الذاتية لمئات الأسماء من مناضلي الثورة ومناضلي ما قبل الثورة الذين تقاسم معهم صاحب السيرة السراء والضراء وانطلقوا معا في مسيرة البحث عن الحياة الحرة والكريمة وعن مجتمع الرخاء والتقدم والوئام الاجتماعي والإنسانية، وللأمانة فقد رصد صاحب هذه السيرة مواقف وأدوار كل هذه الشخصيات بأمانة ودقة ووفاء وكان يقدم أبطال عمله كما صنعتهم الأحداث فدائيين أنقياء مخلصين أوفياء مناضلين أشداء صادقين مع وطنهم وثورتهم ومجتمعهم وشعبهم بغض النظر عن انتمائهم السياسي أو موقعهم الطبقي أو مكانتهم القيادية في مسار ثورة 14 أكتوبر وما قبلها وما بعدها.

  5. تتميز هذه السيرة الذاتية بأنها لا تنطلق من موقف آيديولوجي أو طبقي معين بل لقد كانت أيديولوجية صاحبها هي الوطن وطبقتها هي الشعب وطوال هذه المسيرة المكتظة بالدروس والعبر والآمال والآلام كان الرجل في قلب الأحداث لا ديدن له إلا الشعب ولا هاجس له إلا الوطن ولا هم له إلا ما يخدم الناس ويحق الحق ويزهق الباطل.

ما هي الدروس التي يمكن استخلاصها من سيرة “عمران الفدائي والإنسان”؟

الحقيقة أن الكتاب الذي بين أيدينا كما قلنا ليس فقط سيرة ذاتية واحدة لمناضل واحد من مناضلي ثورة أكتوبر، بل هو رصد لأجزاء مهمة من تاريخ تلك الثورة وما قبها وما بعدها، وقد تعمد صاحب السيرة أن يشير إلى أنه لن يتناول إلا تلك الأحداث التي كان مشاركا فيها وحاضرا في صيرورتها، ولا أظنه أكمل كل مشاركاته في هذه السيرة المشرقة، كما لم يزعم أنه سيدون كل شيء عن هذه الثورة ولذلك يمكننا ملاحظة غياب بعض الأحداث أو بعض الأسماء (وذلك ليس مأخذا على الكتاب وصاحبه) لكننا فقط أردنا التأكيد أن المناضل صالح فاضل الصلاحي قد استطاع بهذه الذكريات أن يسلط الضوء على لحظات مصيرية وحاسمة من تاريخ الثورة والنظام الوطني في جنوب اليمن، لكن ما يميز هذه السيرة أنها تمثل (كما قلنا) عشرات السير الذاتية لعشرات المناضلين الذين زاملوا المناضل الصلاحي، وشاركوه وشاركهم أحداثاً مصيرية هامة، ومن خلال ما عرضه تتبدى لنا تلك السجايا الأخلاقية الثورية لكل من هؤلاء فما إن يطل اسم أحدهم “سالمين مثلا” حتى يذكرنا بكل بسجايا الشجاعة والنزاهة والتواضع والأمانة والفدائية والاستبسال والحكمة والحنكة القيادية التي كشف عنها المؤلف في كتابه، والتي تميز بها رفاق مسيرته الكفاحية، وما إن نتذكر واحدا من هؤلاء حتى نستحضر البطولات النادرة والمواقف الاستثنائية والمغامرات النبيلة التي خاضها أو شارك فيها أو خطط لها أو أنجزها.

وهكذا فإن سيرة عمران تقدم لنا جملةً من الدروس التاريخية التي لا تتعلق بصاحب السيرة وحده بل إنها يمكن أن تغدو قانونيات عامة لكل ثورة وسنن موضوعية لكل حركة تغيير ، وإذ لا يتسع المجال هنا لتناول كل هذه الدروس والعبر فإن أهم ما يمكن أن يستخلصه القارئ المحايد والحصيف لهذه السيرة الثرية:

  • أن للثورات قوانينها وصيرورتها، ولها عواملها الذاتية والموضوعية، وأن وجود طليعة سياسية قائدة تخطط للثورة وترسم آفاقها وتحدد أهدافها واستراتيجياتها وتكتيكاتها يمثل أمرا حاسما لنجاح الثورة وإنه بإمكان هذه الطليعة أن تتألف من المئات أو حتى العشرات من المناضلين الأشداء المخلصين والمدركين لغاية نضالهم، لكنهم بعددهم القليل قادرون على صناعة أحداث تاريخية عاصفة قد لا ينجزها الآلاف أو مئات الآلاف غير المنظمين وغير المرتبطين بطليعة سياسية منظمة.

  • إن الأحداث الصغيرة المتصلة ببعضها والمرتبطة بأهداف عظيمة والهادفة إحداث التغيير المنشود يمكن أن تتحول بمرور الزمن إلى زلازل مدمرة للكيان المراد تغييره، فمهاجمة مركز شرطة من مراكز السلطات الاستعمارية أو اغتيال ضابط اجليزي ليس حدثا مفردا بذاته بل إن يصبح جزءً من سلسلة متواصلة من العمليات التي تتحول بمرور الزمن إلى عواصف تحفر أثرها في المسار التاريخي للعملية الثورية وتقود على النتيجة الحتمية في التغيير وانتصار الثورة وأهدافها.

  • إن الأحداث العظيمة تصنعها الإرادات العظيمة لأناس عظماء، فالثورات لا تصنعها الإرادات الخائرة ولا تنجزها الأيادي المرتعشة بل يصنعها التخطيط والتدبير والمغامرة والاستعداد للبذل والتضحية والعطاء دون انتظار مكافأة من أحد وهذا ما تؤكده مسيرة ثورة الرابع عشر من أكتوبر منذ انطلاق رصاصتها الأولى حتى لحظة انتصارها على المستعمر وإعلان ميلاد جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في 30 نوفمبر 1967م.

  • إن الإرادات العظيمة التي تصنع الأحداث العظيمة، تقتضي وحدة مركز هذه الإرادة وبالتالي تصرف جميع فريق الثورة بالانطلاق من هدف واحد ووفقا لاستراتيجية واحدة وبمنهاج تقره الطليعة السياسية للثورة ويمتثل له المناضلون امتثالا صارما لا يقبل التهوين والتردد.

  • إن تسلل النزعات الذاتية والنزاعات الجانبية إلى صفوف الطليعة السياسية هو بداية الاعتلال للكيان السياسي الذي تمثله والأهداف العظيمة التي تعبر عنها، ويمكن لهذه  النزاعات غير المبررة والقائمة على الأنانية السياسية أو حب الذات أن تتحول إلى فيروس قاتل للكيان السياسي يفعل من التدمير ما لا تفعله كل المؤامرات الخارجية، لأنه يبدد القوى ويصرف الطاقات نحو الأهداف غير الوطنية ويسخر الممكنات لمواجهة رفاق الأمس بدلا من تجميع طاقات الأطراف المتصارعة لإنجاز ما تستدعيه التحديات المرحلية الماثل والمرتقبة.

  • إن لكل مرحلة من مراحل تاريخ الثورة شروطها ومهماتها وأدوات عملها وتحدياتها ومن ثم قوانينها التي تختلف اختلافا جذريا عما قبلها، وما بعدها، وبالتالي فإن الخلط بين قوانين مراحل الكفاح المسلح ومراحل البناء الوطني يقود إلى نتائج غير حميدة قد تصل إلى المأساوية وتقود إلى كوارث غير مرتقبة.

  • إن غياب الديمقراطية في حياة الأحزاب والتنظيمات العصرية، وفي حياة النظام السياسي عموما، يمثل عائقا أساسيا من معوقات التطور السياسي والحيوية السياسية وهو مهما كانت التبريرات ومهما كانت نزاهة ووطنية الزعامة السياسية يوفر أرضية خصبة للديكتاتورية والنزعة الفردية، ومن ثم نشوء النزاعات والصراعات والاستقطابات المدمرة وبالتالي انقسام معسكر الثورة إلى تجنحات متناحرة تنسى الأهداف العظيمة التي أتت من أجلها الثورة لتنصرف في مواجهة النزاع الداخلي  الذي يسبغ ما تبقى من عمر الثورة وقد يؤدي إلى وأد الثورة وأهدافها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*   من صفحة الكاتب على شبكة التواصل الاجتماعي فيس بوك