في تأمل المشهد والمعنى.. فاز بها حلبوب
الدكتور قاسم المحبشي
لعب، لعبة ، ألعاب، ملاعب، تلاعب، قواعد اللعبة، رياضة، منافسة، تدريب، تأهيل، مارثون مونديال وغيرها كلمات ترمز إلى النشاط الذي يمارسه الكائن الحي بوصفه جزءا أصيلًا من حياته ( وما الحياة الدنيا الا لعب ولهو) فاللعب ظاهرة حيوية أرتبطت بالكائنات الحية منذ اقدم العصور.وللعب وظائف جوهرية في تأهيل صغار الحيونات وجعلها قادرة على التكيف مع الحياة. بل قل أن الحياة برمتها هي لعبة الكائن الحي الذي يجب أن يتقن ممارستها. لعبة مع الموت والخوف والعجز والمرض تهدف إلى تأكيد القدرة على التحدي والنشاط والاستمرار في هذا الكوكب الأرضي القاهر. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي جعل من اللعب فنا من فنون الحياة ونشاطا اجتماعيا إنسانيا عاما بهدف التأهيل والمتعة والابتهاج والمنافسة واختبار القدرات والمواهب. وقد كان المارثون اليوناني أهم أعياد أثينا القديمة ومنه تفتق مفهوم الفلسفة كما جاء في التاريخ. فحينما سأل عن منهم الفلاسفة؟ أستلهم مشهد المارثون بوصفه مثالا معبرا عن المعنى. إذا اشار إلى مضمار المارثون قائلا: أنظر إلى المارثون فماذا ترى؛ هناك أناس جاؤوا لغرض المنافسة والفوز باللعبة وهناك أناس جاؤوا لغرض التجارة والبيع والربح وهناك أناس جاؤوا لمشاهدة ما يحدث وتأمل المشهد برمته وهولاء هم الفلاسفة. ربما اختلف الأمر الآن ولكن يبقى المعنى الكلي للعبة هو هو. البارحة شاهدت المفكر المصري يوسف زيدان وهو يعلق على مونديال قطر الجاري. إذ أكد للشخص الذي كان يركب له الشاشة في منزله، أنه لا يهتم بالرياضة فقال له: لماذا تتابعها إذا كنت لا تهتم بها؟ فرد زيدان: أنني أهتم بما يتهم به الناس ويشغلهم. والمونديال هو لعب بينما ثمة أشياء كثيرة جادة جدا في حياة العرب والمسلمين الآن ولو كان صرفت تلك الأموال المهدورة في مونديال قطر لسبيل تنمية الشعوب العربية والإسلامية لكانت احدثت نقلة نوعية في حياتها” ما علينا من أحلام يوسف زيدان وتهويماته فيما نحن بصدده. مونديال قطر حدث نوعي بالنسبة للشعوب العربية وتاريخها القصير من اللعب والفرح والابتهاج إذ أرتبط اللعب في الثقافة العربية الإسلامية باللهو والعبث الذي يمارسه الأطفال في كل مكان. الأطفال وحدهم الذين يلعبون هكذا تم تكريس الثقافة العامة ولهذا لم يعرف العرب مجالات ومؤسسات عامة للممارسة الألعاب في العصور الحديثة. عرفوا ساحات الفروسية وميادين القتال ومؤسسات العبادة والطقوس المقدسة في اداء مناسك الحج والعمرة بعكس اليونان والرومان وربما الهند والصين الذين مارسوا الألعاب منذ أقدم العصور بوصفها مناشطا جماعية رسمية. وتحضرني الذاكرة هنا تفسير مشيل فوكو لهندسة الجسد في الحضارة الرومانية.
بضرب مثال عن عروض صراع العبيد مع بعضهم حتى الموت في مشهد احتفالي بهيج في روما. وهذا هو ما فعله قائد ثورة العبيد سبارتاكوس حوالي 111 ق.م.-71 ق.م حينما ثأر على روما العظيمة إذ تعلم سبارتكوس في مدرسة للعبيد كيفية مصارعة الوحوش في ملاعب روما لتسلية الرومان، وفي سنة 73 ق.م نظم ثورة للعبيد في تلك المدرسة، وحينما انتصر بسرعة مذهلة على أسياده راح يطبق عليهم ذات الممارسة التي تعلمها في مدرستهم إذ جعلهم يمارسون لعبة مصارعة الوحوش في الملعب الروماني وكان هو وقادة ثورته يشاهدون العرض بحماسة بالغة. إذ لم يكن لديه ما يفعله بأكثر مما تعلمه في مدرسة العبودية الرومانية ورغم هزيمته بعد سبعين يوما فقط إلا أن ثورته غيرت الإمبراطورية الرومانية نجح في تغيير تصور الرومان للعبيد ، الذي أدى إلى تحسينات في حياة ووضع العبيد وتقليص العبودية تدريجيًا.فهل سيغير مونديال قطر صورة العرب إلى أنفسهم وإلى العالم وإلى الحضارة العالمية. والثقافة يمكن اكتسابها بالتقليد والمحاكاة أما الحضارة فلا يمكن اكتسبها لا بتعلم قواعد لعبتها بالتعليم والممارسة لأن الممارسة ليس مثالاً غامضاً أو أرضية تحتية للتاريخ أو محركاً خفياً بل هي ما يفعله الناس حقاً وفعلاً فالكلمة كما يقول الفرنسي بول فين :” تعبر بوضوح عن معناها ” وإذا كانت بمعنى من المعاني (محتجبة) كالجزء المحتجب من جبل الجليد، فذلك هو ما تجهد القوى المهيمنة والمتسلطة والقابضة على السلطان والنفوذ في إخفائه على الدوام بما تثيره من زوابع ونقع كثيف يظلل أرض المعركة بالدخان والغبار، وهذه هي الوظيفة الجوهرية للايدولوجيا السياسية، إنها العمل الدءوب على إخفاء وحجب الواقع السياسي الفعلي في عالم الممارسة المتعينة.
نعم المونديال حدث إنساني عالمي ولكنه خطاب انتجته قوى لعبة أخرى ليست لعبتنا ولم يكن لنا دورا في انتاجه وتصميم قواعده. قطر العربية هي مجرد ملعب لممارسة اللعبة بقواعدها المتفق عليها من الفيفا مؤسسة إدارة اللعبة العالمية. ومع ذلك يبقى حدث مهمه بالنسبة لنا. إذ هي رياضة الجسد الذي لا قيمة له ولا اعتبار في ثقافة العرب العاربة والمستعربة والتربية البدنية السليمة لا تهتم بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة.والثقافة بوصفها استراتيجية للتنمية العقلانية المستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) إذ (هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء) والثقافة بهذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديو بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الأخرين والحياة و الكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابيتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع.
الرياضة ليست مجرد ملعب للممارسة بل هي بنية ثقافة متكاملة الأبعاد والانساق والغايات.
سنشاهد المونديال وسنتعلم منه بالتأكيد ومبارك لقطر هذا الحدث العالمي الرياضي الكبير. ويكفينا من مونديال قطر أنه اكتشف الذاكرة الاسطورية للأستاذ الصديق عبدالرقيب حلبوب اليافعي مدرس اللغة العربية الشغوف بالرياضة حد الجنون. ذلك الرجل الخمسيني النحيل حد السيف عرفته قبل أربعة سنوات حينما كتبت مقالا عن الفائز الأولى في مسابقة الرياضيات الحديثة بالدول العربية عام ٢٠١٩ إذ فاز ابنه حسين عبدالرقيب حلبوب حينها. جرت المسابقة في مدينة مسقط العمانية. بعدها تواصل مع والده يشكرني على اهتمامي بولده. ثم عرفت كفاحه المستميت في تربية وتعليم اولاده في ظروف بالغة القسوة والضيق. لم اجد شخصا مثله يحمل كل هذا الاصرار والتحدي على النجاح. فاصل اضطراري وصفه أمين اليافعي ” كان ظاهرة بكل معنى الكلمة، بهوسه اللامحدود في متابعة أخبار كرة القدم.في بيئة لم تكن تهتم كليا بأخبار كرة القدم العالمية، كان يتعرض عبدالرقيب للسخرية والتندر في كل مناسبة يستعرض فيها معلوماته. شخصيا كنت مشدوهاً بكمية معلوماته والثقة الكبيرة التي يتحدث بها، ومصادر تلك المعلومات، وهي مهمة ليست بالسهلة على الإطلاق في البيئة التي نشأ فيها عبدالرقيب حيث لا يتوفر سوى أدوات تقليدية وبدائية جدا واضاف كنت أتوقع أنه سيجن (يفقد عقله) نتيجة ما يتعرض له من سخرية وتحبيط” نعم كانت البيئة الذي عاش فيها أبو حسين بيئة محيطة جدا باهتماماته الغريبة الأطوار في يمن الحرب والدمار. ولكن ليس هناك ما هو أقوى من الحب والاهتمام لحفظ الإنسان الأشياء التي يحبها. أحب العلم والتعليم فأثمر حبه واهتمام عبقري الرياضيات حسين حلبوب وعشق كرة القدم وانتج عشقة هذا الحضور الإعلامي في الفضاء الافتراضي قبل المونديال فصار في بضعة أيام ايقونة المونديال وضيف القنوات الرياضية في الدوحة. ولولا المونديال لما أحد عرف شخصا اسمه عبدالرقيب حلبوب اليافعي.
أنه السهل الممتنع. فمعلوماته الرياضية التي تبدو بسيطة هي مصدر تفوقه على الجميع فمن هو ذلك الذي يستطيع حفظ كل هذا الكم من المعلومات عن تاريخ كأس العالم؟ الملاعب والفرق واللاعبين والحكام والنتائج والتواريخ والأمكنة؟ وحده بن حلبوب الذي يمتلك ذاكرة ذكية ادهشت الجميع. وهذا بحد ذاته يكفينا من المونديال. فالف مبارك عليك استاذ عبدالرقيب حلبوب. فقد كان حضورك الفاعل رسالة اليمن للعالم. اليمن التي ماتت بصندوق وضاح بلا ثمن ولم يمت في حشاها العشق والطرب.